سورة النبأ - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النبأ)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {عَمّ يتساءلون}، وأصله: عمّا فحذفت الألف، كما قال في الألفية:
وما في الاسْتِفهامِ إن جُرَّت حُذِفْ *** أَلِفهَا وأَوْلهَا الها إنْ تَقْفِ
وحذفها إمّا للفرق بين الاستفهامية والموصولة، أو للتخفيف، لكثرة الاستعمال، وقُرىء بالألف على الأصل، أي: عن شيءٍ يتساءلون. والضمير لأهل مكة، وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم، يسأل بعضُهم بعضاً، ويخوضون فيه إنكاراً واستهزاءً، وليس السؤال عن حقيقته، بل عن وقوعه، الذي هو حال من أحواله، ووصف من أوصافه، فإنَّ ما كما يُسأل بها عن الحقيقة يُسأل بها عن الصفة، فتقول: ما زيد؟ فيقال: عالم أو طبيب.
وقيل: النبأ العظيم هو القرآن، عجب من تساؤلهم واختلافهم وتجادلهم فيه. والاستفهام للتفخيم والتهويل والتعجيب من الجدال فيه، مع وضوح حقه وإعجازه الدالّ على صدق ما جاء به، وأنه من عند الله، فكان ينبغي ألاّ يجادل فيه، ولا يتساءل عنه، بل يقطع به ولا يشك فيه، وقد قال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَؤاْ عَظِيمُ} [ص: 67] الآية. وقال الورتجبي: النبأ العظيم: كلامه القديم عظيم بعظم الله القديم، لا يَنال بركته إلاّ أهل الله وخاصته. اهـ. وقيل: كانوا يسألون المؤمنين، فالتفاعل قد يكون من واحد متعدد، كما في قولك: تراؤوا الهلال. انظر أبا السعود.
وقوله: {عن النبأ العظيم} يتعلق بمحذوف، دلّ عليه ما قبله، فيوقف على {يتساءلون} ثم ليستأنف {عن النبأ...} إلخ، أي: يتساءلون عن الخبر العظيم، وهو البعث وما بعده، أو القرآن، فتكون المناسبة بين السورتين قوله: {فَبِأَيْ حَدِيِث بَعْدَهُ يُؤْمِنُون} [المرسلات: 50] مع قوله: {عن النبأ العظيم}، والأحسن: أنه كل ماجاءت به الشريعة من البعث والتوحيد والجزاء وغير ذلك.
قال ابو السعود: هو بيان لشأن المسؤول عنه، إثر تفخيمه بإبهام أمره، وتوجيه أذهان السامعين نحوه، وتنزيلهم منزلة المستفهمين، لإيراده على طريقة الاستفهام من علاّم الغيوب، للتنبيه على أنه لعدم نظيره خارج عن دائرة علم الخلق، حقيق بأن يُعتنى بمعرفته ويُسأل عنه، كأنه قيل: عن أي شيء يتساءلون، هل أُخبركم به، ثم قيل بطريق الجواب: عن النبأ العظيم، على منهاج قوله تعالى: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ف {عن} متعلقة بما يدل عليه المذكور وحقه أن يُقَدَّر مؤخراً، مسارعة إلى البيان، هذا هو الحقيق بالجزالة التنزيلية، وقد قيل: هي متعلقة بالمذكور، و{عَمَّ} متعلق بمضمر مفسَّر به، وأيّد ذلك بأنه قُرِىء {عمَّه}، والأظهر: أنه مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف، وقيل: عن الأولى للتعليل، كأنه قيل: لِمَ يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والنبأ: الخبر الذي له شأن وخطر. اهـ.
{الذين هم فيه مختلفون}، فمنهم مَن يقطع بإنكاره، ومنهم مَن يشك، فمنهم مَن يقول: {مَاهِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] ومنهم مَن يقول: {مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ} [الجاثية: 32] ومنهم مَن يُنكر المعادين معاً، كهؤلاء، ومنهم مَن يُنكر المعاد الجسماني كبعض أهل الكتاب. أو: في القرآن، فمنهم مَن يقول: سحر، ومنهم مَن يقول: كهانة، ومنهم مَن يقر بحقيّته، ويُنكره حسداً وتكبُّراً. والضمير في {هم فيه} للتأكيد، وفيه معنى الاختصاص، ولم يكن لقريش اختصاص بالاختلاف، لكن لمّا كان خوضهم فيه أكثر وتعقبهم له أظهر، جعلوا كأنهم مخصوصون به. اهـ. قاله الطيبي. ف {فيه} متعلق ب {مختلفون}، قُدِّم اهتماماً به ورعاية للفواصل، وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات، أي: هم راسخون في الاختلاف، وقيل: المراد بالاختلاف: مخالفتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في إثباته، حيث أنكروه، فيحمل الاختلاف على صدور الفعل من متعدد، لا علَى مخالفة بعضهم لبعض من الجانبين، لأنَّ الكل وإن استحق الردع والوعيد، لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر، إذ لا حقيّة في شيء منهما حتى يستحق مَن يخالفه المؤاخذة، بل لمخالفته له صلى الله عليه وسلم في إثباته. اهـ. انظر أبا السعود.
{كلاَّ}، ردع عن الاختلاف والتساؤل بالمعنى المتقدم، {سيعلمون} عن قريبٍ حقيقة الحال إذا حلّ بهم العذاب والنكال، {ثمَّ كلاَّ سيعلمون}، تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد. والسين للتقريب والتأكيد. و{ثم} للدلالة على أنَّ الوعيد الثاني أبلغ وأشد، وقيل: الأول عند النزع، والثاني عند القيامة، وقيل: الأول للبعث، والثاني للجزاء. وقُرىء {ستعلمون} بالخطاب على نهج الالتفات، تشديداً للردع والوعيد، لا على تقدير: قل لهم؛ للإخلال بجزالة النظم الكريم.
الإشارة: إن ظهرت أنوار الطريق، ولاحت أسرار أهل التحقيق، كثر الكلام بين الناس فيها، والتساؤل عنها، فيُقال في شأنهم، عمَّ يتساؤلون عن النبأ العظيم، الذي هو ظهور الحق وشهوده، الذي هم فيه مختلفون، فمنهم مَن يُنكره رأساً، ومنهم مَن يُقره في الجملة، ويقول: هم لقوم أخفياء لا يعرفهم أحد، كلاَّ سيعلمون يوم تحق الحقائق وتبطل الدعاوى، ويندم المفرط، حيث لا ينفع الندم وقد زلّت به القدم.


يقول الحق جلّ جلاله: {ألم نجعل الأرضَ مِهاداً} أي: بساطاً وفراشاً، فرشناها لكم حتى سكنتموها. وقُرىء {مَهْداً} تشبيهاً لها بمهد الصبي، وهو ما يمهّد له لينام عليه، تسمية للممهود بالمصدر. ولمّا أنكروا البعث قيل لهم: ألم يَخلُق مَن أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة، فلِمَ تُنكرون قدرته على البعث؟ وما هو إلا اختراع مثل هذه الاختراعات، أو: قيل لهم: لِمَ فعل هذه الأشياء، والحكيم لا يفعل شيئاً عبثاً، وإنكارُ البعث يؤدّي إلى أنه عابث في كل ما فعل؟ ومن هنا يتضح أنَّ الذي وقع عنه التساؤل هو البعث، لا القرآن أو نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل. والهمزة للتقرير. والالتفات إلى الخطاب على القراءة المشهورة للمبالغة في الإلزام والتبكيت.
{والجبالَ أوتاداً} للأرض، لئلا تميد بكم، فأرساها بها كما يُرسى البيت بالأوتاد، {وخلقناكم أزواجاً} ذكراً وأنثى، ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر، وينتظم أمر المعاشرة والمعاش، ويتيسر التناسل. وقيل: خلقناكم أصنافاً وأنواعاً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم، وهو عطف على المضارع المنفي، داخل في حكم التقرير، فإنه في قوة: إنما جعلنا الأرض.. إلخ.
{وجعلنا نَومكم سُباتاً} أي: راحة لكم، أو: قطعاً للأعمال والتصرُّف، فتريحون أبدانكم به من التعب. والسبْت: القطع. أو: موتاً؛ لِما بينهما من المشاكلة التامة في انقطاع أحكام الحياة، وعليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ} [الأنعام: 60] وقوله: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42].
{وجعلنا الليلَ لباساً} يستركم بظلامه، كما يستركم اللباس، شبّهه بالثياب التي تلبس، لأنه يستر عن العيون، وقيل: المراد به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه. {وجلعنا النهارَ معاشاً} أي: وقت حياة تتمعشون فيه من نومكم، الذي هو أخو الموت، كقوله: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [الفرقان: 47] أي: تنتشرون فيه من نومكم، أو تطلبون فيه معاشكم، وتتقلبون في حوائجكم، على حذف مضاف، أي: ذا معاش.
{وبنينا فوقكم سَبْعاً شِداداً} أي: سبع سموات، قوية الخلق، محكمة البناء، لا يؤثّر فيها مرّ الدهور، ولا المرور والكرور. والتعبير عنها بالبناء مبني على تنزيلها منزلة القبة المضروبة على الخلق، وهو يؤيد كونها الأفلاك المحيطة. {وجعلنا} فيها {سِراجاً وهَّاجاً} أي: مضيئاً وقّاداً، أي: جامعاً للنور والحرارة، وهو الشمس، والوهَّاج: الوقّاد المتلألىء، من: وهجت النار إذا أضاءت، أو البالغ في الحرارة، من: الوهج، وهو الحر. والتعبير عنها بالسراج مناسب للتعبير عن السموات بالبناء، فالدنيا بيت وسراجه الشمس بالنهار والقمر والنجوم بالليل. والجعل هنا بمعنى الإنشاء والإبداع، كالخلق، غير أنَّ الجعل مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية.
{وأنزلنا من المُعْصِرات} أي: السحاب إذا أعصرت، أي: شارفت أن يعصرها الرياح فتمطر، ومنه: أعصرت الجارية: إذا دنت أن تحيض، والرياح: إذا حان لها أن تعصر السحاب، وقد جاء: أنَّ الله تعالى يبعث الرياح، فتحمل الماء إلى السحاب فتعصره كما يعصر الماء من الجفافة، أي: أنزلنا من السحاب {ماءً ثَجَّاجاً} أي: منصباً بكثرة، يقال: ثج الدم، أي: أساله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الحج العجّ والثج» أي: رفع الصوت بالتلبية، وصب دم الهَدْي.
{لنُخرج به}؛ بذلك الماء {حباً} يُقتات به، كالحنطة والشعير، ونحوهما {ونباتاً} يُعلف، كالتبن والحشيش. قال الطيبي: النبات أريد به النابت. وتقديم الحب مع تأخره في الإخراج لشرفه؛ لأنَّ غالبة قوت الإنسان. {وجناتٍ}؛ بساتين، من: جنّة إذا ستره، فالجنة تطلق على ما فيه النخل والشجر المتكاثف لأنه يستر الأرض بظل أشجاره، وقال الفراء: الجنة ما فيه النخل، والفردوس مافيه الكرم. و{ألفافاً} صفة، أي: ملتفّةَ الأشجار، واحدها: لِفّ ككِن وأكنان، أو: لَفيف، كشريف وأشراف، أو: لا واحد له، كأوْزاع وأضياف، أو جمع الجمع، فألفاف جمع لُفّ بالضم، ولُفّ جمع لَفَّاء كخُضر وخضراء، واللِّفُ: الشجر الملتف.
قال أبو السعود: اعلم أنَّ فيما ذكر تعالى من أفعاله عزّ وجل دلالة على صحة البعث من ثلاثة أوجه:
الأول: باعتبار قدرته تعالى، فإنَّ مَن قَدَر على إنشاء هذه الأفعال البديعة، من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه، كان على الإعادة أقدر وأقوى.
الثاني: باعتبار علمه وحكمته، فإنَّ مَن أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع، مستتبع لغايات جليلة، ومنافع جميلة، عائدة إلى الخلق يستحيل أن يخليها من الحكمة بالكلية، ولا يجعل لها عاقبة باقية.
والثالث: باعتبار نفس الفعل، فإنَّ في اليقظة بعد النوم أنموذجاً للبعث بعد الموت، يشاهدونها كل يوم، وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض الميتة، يعاينونه كل حين، شاهد على إخراج الموتى من القبور بعد الفناء والدثور، كأنه قيل: ألم يفعل هذه الأفعال الآفاقية والأنفسية، الدالة بفنون الدلالات على حقيّة البعث، الموجبة للإيمان به، فما لكم تخوضون فيه إنكاراً، وتتساؤلون عنه استهزاءً؟ اهـ.
الإشارة: ألم نجعل أرضَ البشرية مِهاداً للعبودية والقيام بآداب الربوبية، وجبالَ العقل أوتاداً، يسكنونها لئلا يميلها الهوى عن الاعتدال في الاستقامة وخلقناكم أزواجاً أصنافاً؛ عارفين وعلماء، وعُبَّاداً وزُهَّاداً، وصالحين وجاهلين، وعصاة وكافرين، وجعلنا نومَكم، اي: سِنَتكم عن الشهود بالميل إلى شيء من الحس في بعض الأوقات، سُباتاً، أي: راحة للقلوب، لأنَّ دوام التجلَّي يمحقُ البشرية، وفي الأثر: «رَوِّحوا قلوبكم بشيءٍ من المباحات» أو كما قال عليه الصلاة والسلام. أو: نومَكم الحسي راحة للأبدان، لتنشط للعبادة، وجعلنا ليل القطيعة لباساً ساتراً عن الشهود وجعلنا نهارَ العيان معاشاً؛ حياة للأرواح والأسرار، وبنينا فوقكم سبعَ مقامات شِداداً صعاباً، فإذا قطعتموها وترقيتم عنها أفضيتم إلى فضاء الشهود، وهي التوبة النصوح والورع، والزهد، والصبر على مجاهدة النفس، وخرق عوائدها، والتوكُّل، والرضا، والتسليم، وجعلنا في قلوبكم بعد هذه المقامات سِراجاً وهّاجاً، وهي شمس العرفان لا تغرب أبداً، وأنزلنا من سماء الغيوب ماء ثجّاجاً، تحيى به الأوراح والأسرار، وهو ماء الواردات الإلهية، والعلوم اللدنية، لنُخرج به حبًّا؛ حِكماً لقوت الأرواح، ونباتاً؛ علوماً لقوت النفوس، وجنات: بساتين التوحيد، مشتملة على أشجار ثمار الأذواق وظلال التقريب.


يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّ يومَ الفَصْلِ} بين الخلائق، فيتميز المحسن من المسيء، والمحقّ من المبطل، {كان} في علم الله تعالى وتقديره {ميقاتاً}؛ وقتاً محدوداً ومُنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو: ميعاداً لجمع الأولين والآخرين، وما يترتب عليه من الجزاء ثواباً وعقاباً، لا يكاد يتخطاه بالتقدُّم ولا بالتأخُّر، وهو {يوم ينفخ في الصور} نفخة ثانية، ف {يوم} بدل من {يوم الفصل}، أو عطف بيان له، مفيد لزيادة تخفيمه وتهويله في تأخير الفصل، فإنه زمان ممتد، في مبدئه النفحة، وفي بقيته الفصل وآثاره. والصُور: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا خلق الله السموات والأرض خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضع له على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، حتى يؤمر بالنفخ فيه، فيؤمر به، فينفخ نفخةً لا يبقى عندها في الحياة غير ما شاء الله، وذلك قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات...} [الزمر: 68] الآية، ثم يؤمر بأخرى، فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت إلاَّ بُعث وقام، وذلك قوله تعالى: {ثُمََّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68].»
والفاء في قوله تعالى: {فتأتون} فصيحة تفصح عن جملة حُذفت ثقةً بدلالة الحال عليها، وإيذاناً بغاية سرعة الإتيان، كما في قوله تعالى: {أّنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] أي: فتبعثون من قبوركم فتأتون عقب ذلك من غير لبث {أفواجاً}؛ جماعات مختلفة الأحوال، متباينة، الأوضاع، حسب اختلاف أعمالكم وتباينها، مِن راكب، وطائر، وماش خفيف وثقيل، ومكب على وجهه وغير ذلك من الأحوال العظيمة، أو: أمماً، كل أمة مع رسولها، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُناَسِ بِإِمَامِهْم} [الكهف: 47].
{وفُتِحت السماءُ} أي: تشققت لنزول الملائكة، وصيغة الماضي لتحقُّق وقوعه، {فكانت أبواباً}؛ فصارت ذات أبواب وطرق وفروج وما لها اليومَ من فُروج. {وسُيْرت الجبالُ} في الجو على هيئتها بعد قلعها من مقارها، {فكانت سَرَاباً}؛ هباءً، تخيل الشمس أنها سراب، وهَل هذا التسيير قبل البعث فلا يقع إلاَّ على أرض قاع صفصف، وهو ما تقتضيه ظواهر الآيات، كقوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ} [الكهف: 47] وقوله: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة} [الحاقة: 14، 15] والفاء تقتضي الترتيب، أو لا يقع إلاّ بعد البعث، وهو ظاهر الآية هنا وسورة القارعة. وهو الذي اقتصر عليه أبو السعود، قال: يُبدل اللهُ الأرض ويُغيّر هيئاتها، ويُسَيّر الجبال على تلك الهيئة الهائلة عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها. اهـ. والله أعلم بحقيقة الأمر.
ثم شرع في تفصيل أحكام الفصل بعد بيان هوله، وقدَّم بيان حال الكفرة ترهيباً، فقال: {إنَّ جهنم كانت مِرْصَاداً} أي: موضع الرصد، وهو الارتقاب والانتظار، أي: تنتظر الكفار وترتقبهم ليدخلوا فيها، أو طريقاً يمر عليه الخلق، فالمؤمن يمر عليها، والكافر يقع فيها، أي: كانت في علم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه الخزنةُ الكفارَ ليعذبوهم فيها، {للطاغين مآباً}: نعت لمرصاد، أي: كائناً للطاغين مرجعاً يرجعون إليه لا محالة، {لابثين فيها}، ماكثين فيها، وهو حال مُقدَّرة من المستكن في الطاغين.
وقرأ حمزة {لبثين}، وهو أبلغ من لابثين لأنَّ اللابث مَن يقع منه مطلق اللَّبْث، واللَّبِث مَن شأنه اللبث والمقام، و{أحقاباً}: طرف للبثهم، جمع حُقب، كقُفْل وأقفال، وهو الدهر، ولم يرد به عدداً محصوراً، بل كلما مضى حُقب تبعه حقب، إلى غير نهاية، ولا يستعمل الحُقب إلاّ حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها. وقيل: الحقب ثمانون سنة، ورُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه ثلاثون ألف سنة. وقال الحسن: ليس للأحقاب عدة إلاّ الخلود.
{لا يَذُوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً}: حال من ضمير {لابثين} أي: غير ذائقين فيها {برداً} أي: نسيماً بارداً، بل لهباً حاراً، {ولا شراباً} بارداً، {إلاَّ حميماً}؛ ماءً حاراً، استثناء منقطع، أي: لا يذوقون في جهنم، أو في الأحقاب، برداً، ولا ينفس عنهم غم حر النهار، أو: نوماً، فإنَّ النوم يطلق عليه البرد، لأنه يبرد سَوْرة العطش ولا شراباً يُسكن عطشهم، لكن يذوقون فيها ماءً حاراً، يحرق ما يأتي عليه، {وغسَّاقاً} أي: صديداً يسيل من أجسادهم. وفي القاموس: وغَساق كسَحاب وشدّاد: البادرُ المنتن. وقال الهروي عن الليث: {وغساقاً} أي: مُنتناً، ودلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أنَّ دلواً من غساق يُهرَاقُ في الدنيا، لأنتَنَ أهلُ الدنيا»، وقيل: ما يسيل من أعينهم من دموعهم يسقون به مع الحميم، يقال: غسقت عينه تغْسَق، إذا سالت. ثم قال: ومَن قرأ بالتخفيف، فهو البارد الذي يُحرق ببرده. اهـ.
{جزاءً وِفاقاً} أي: جُوزوا بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم الخبيثة، مصدر بمعنى الصفة، أو: ذا وفاق. {إِنهم كانوا لا يرجون حِساباً} أي: لا يخافون محاسبة الله إياهم، أو: لا يؤمنون بالبعث فيرجعوا حسابه، {وكذّبوا بآياتنا} الناطقة بذلك {كِذَّاباً} أي: تكذيباً مفرطاً، ولذلك كانوا مصرِّين على الكفر وفنون المعاصي. وفعّال في باب فعّل فاش. {وكلَّ شيءٍ} من الأشياء، ومِن جملتها أعمالهم الخبيثة، {أحصيناه} أي: حفظناه وضبطناه {كِتاباً}، مصدر مؤكد لأحصينا؛ لأنَّ الإحصاء والكتابة من وادٍ واحد، أو: حال بمعنى مكتوب في اللوح المحفوظ أو في صحف الحفظة، والجملة اعتراض، وقولة تعالى: {فذُوقوا فلن نزيدكم إِلاَّ عذاباً} مسبب عن كفرهم بالحساب، وتكذيبهم بالآيات، أي: فذوقوا جزاء تكذيبكم والالتفات شاهد على شدّة الغضب.
روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنَّ هذه الآية أشدُّ ما في القرآن على أهل النار».
الإشارة: إنَّ يوم الفصل بين العمومية والخصوصية، أو تقول: بين الانتقال من مقام أهل اليمين إلى مقام المقربين، كان في علم الله ميقاتاً، أي: مؤقتاً، وهو يوم انتقاله من شهود الأكوان إلى شهود المكوِّن، أو من مقام البرهان إلى مقام العيان. يوم يُنفخ في صور الأرواح التي سبقت لها العناية، فيُزعجها شوق مقلق أو خوف مزعج، فتأتون إلى حضرة القدس، تسيرون إليها على يد الخبير أفواجاً، وفُتحت سماء الأرواح ليقع العروج إليها من تلك الأرواح السائرة، فكانت أبواباً، وسُيرت جبال العقل حين سطوع أنوار الحقائق، فكانت سراباً، فلا يبقى من نور العقل إِلاّ ما يميز به بين الحس والمعنى، وبين الشريعة والحقيقة. إنَّ جهنم البُعد كانت مِرصاداً، للطاغين المتكبرين عن حط رؤوسهم للخبير، الباقين مع عامة أهل اليمين، مآباً لا يبرحون عنها، لابثين فيها أحقاباً مدة عمرهم وما بعد موتهم، لا يذوقون فيها برد الرضا، ولا شراب نسيم التسليم، إلاَّ حميماً: حر التدبير والاختيار، وغساقاً: نتن حب الدنيا وهمومها، جزاءً موافقاً لميلهم إلى الحظوظ والهوى، إنهم كانوا لا يرجون حِساباً، فلم يحاسبوا نفوسهم، ولا التفتوا إلى إخلاصها، وكذّبوا بأهل الخصوصية، وهم الأولياء الدالون على الله، ثم يقال لهم: ذّوقوا وبال القطيعة، فلن نزيدكم إلاّ تعباً وحرصاً وجزعاً. عائذاً بالله من سوء القضاء، وشماتة الأعداء.

1 | 2